University Media University news
قراءة في كتاب (من المرثاة إلى الملحمة) للدكتور عبد الله بكير
قراءة في كتاب (من المرثاة إلى الملحمة) للدكتور عبد الله بكير
د. أحمد هادي باحارثة
أهداني صديقي الدكتور عبد الله عبد الرحمن بكير كتابه الموسوم من المرثاة إلى الملحمة، وهو كما عرفه المؤلف قراءة في قصيدة ليسداس الرثائية، وملحمة الفردوس المفقود، وكلتاهما للشاعر الإنجليزي جون ملتون، خلا الكتاب من مقدمة واكتفى المؤلف بأن بدأ كتابه بترجمة موجزة عن الشاعر ومسيرته الإبداعية.
ثم بدأ المؤلف قراءته بقصيدة ليسداس فأكد أنها رسخت خطى ملتون في عالم الإبداع الأدبي، وخلدت ذكرى الطالب ( إدوارد كنج ) الذي تسبب حادثة غرقه في نظم هذه القصيدة، ويأتي موته المفاجئ بعد تخرجه من الجامعة التي زامل فيها الشاعر في دراسة اللاهوت .
وقد قارن المؤلف هنا بين تخليد هذه القصيدة الإنجليزية لطالب مغمور وقصائد في الأدب العربي صنعت الشيء نفسه، وعلى كثرة الأمثلة على ذلك إلا أن المؤلف ضرب مثلاً على ذلك من أجواء قصائد الرثاء لتتماشى مع موضوعه، فاختار شخصية صخر الذي خلدته أخته الخنساء في أشعارها الرثائية، كما خلد بعض الشعراء أسماء أقارب ومعارف فجعوا بهم من آباء وأبناء وزوجات ورفقاء حياة، أو خلدوا أسماء قادة قتلوا في المعارك، ولولا تلك الأشعار لاندثرت أسماؤهم في كثرة من خاضوا الحروب في تلك الأزمنة المتباعدة .
وصف المؤلف القصيدة بأنها رعوية؛ لأن الشاعر تقمص شخصية راعٍ فقد صديقه ورفيقه في مهنة الرعي فعبر شعرًا عن حزنه، ثم انتقل الأسى من وجدان الشاعر ليعم عناصر الطبيعة حوله، وناقش المؤلف اختيار اسم ليسداس بطلاً لقصته ورمزًا للطالب الغريق، فرأى أن هذا الاسم قد تكرر في قصائد رعوية سابقة، ورجح أن يكون الشاعر استقاه من شخصية شارفت على الغرق في قصيدة فارساليا لشاعر لاتيني يدعى ( لوكان ) .
انتقل المؤلف لمناقشة مقدمة القصيدة وفيها يخاطب الشاعر أشجار اللبلاب والآس والغار بأسلوب فظ غليظ، فيتوعدها بأنه سينزع ثمارها قبل أن تنضج ويتلف أوراقها، ويعلل فعله بموت صاحبه ليسداس، ثم يشرع المؤلف في تفسير هذه المقدمة ونفسية الشاعر التي أجبرته على هذه الفظاظة، فرأى " أنها توازي مدى الحزن والأسى الذي يعانيه "، ونقل تفسير نقاد آخرون بأن مراد الشاعر هو الإلماح " إلى تجربته الشعرية الغضة وأنها في بداية نموها ... لكن حادثة الوفاة المفاجئ اضطرته اضطرارًا لأن يكتب " أي كأن تلك الحادثة العنيفة انتزعت ثمرات موهبته قبل أن تنضج وتصقل، لكن بكير رأى أنه إذا كان الشاعر يقصد هذا الفهم فإنه يعد " متواضعًا جدًا "؛ لأن صنيعه في محاكاة شعراء الأدب الكلاسيكي في مرثيته دال على " اعتداده بنفسه وثقته العالية بمواهبه الأدبية " .
وبرأيي أنها تحتمل تفسيرين أولهما أنه جعل تلك الشجيرات معادلاً موضوعيًا لصاحبه، ومثل نفسه بحالة الموت فهو يريد أن يقطف تلك الثمار التي لم تنضج كصاحبه الذي اختطفه الموت قبل أن يؤتي أكل ما تلقاه من علوم، ويتلف أوراقها التي تغذيها كأنه يريد أن يهلكها كما غيب الموت صاحبه، وبذلك هيأ الشاعر جو قصيدته ورمز إلى موضوعها ومناسبتها، كصنيع كثير من القصائد العربية الجاهلية التي تشتمل على مقدمات رأى النقاد أنها تشتمل على رمز لموضوع القصيدة وجوها النفسي .
والتفسير الثاني أن الشاعر يعاتب معنفًا تلك الأشجار على بقائها وازدهارها بثمارها وأوراقها، ولم تظهر حزنها على صديقه الذي كان يرعى قريبًا منها على حد قول شاعر عربي في موقف مماثل :
أيا شجر الخابور ما لك مورقًا كأنك لم تحزن على ابن طريف
وملتون يقول : " جئت لأنزع ثمارك الفجة ... أتلف أوراقك ... لأن ليسداس ميت " .
ونرى الشاعر يتحول بعتابه هذا أثناء القصيدة إلى حوريات البحر لأنهن لم يقمن بواجبهن في حماية حبيبهن ليسداس وإنقاذه من الغرق .
ويستمر المؤلف في عرض القصيدة ببراعة لينتهي إلى عرض آراء النقاد فيها، واختار منهم سبعة هم، جونسون وتيليارد وسي إس لويس وإيفانز وتيلاك وفريمان وفلاناجون، فالناقد الأول رأى أن الشاعر لم يوفق في اختيار قالب مرثيته وهو الشعر الرعوي؛ إذ خلت القصيدة، مع كون موضوعها الرثاء، من العاطفة الحقيقية للحزن، أما الناقد تيليارد فرأى أن العاطفة المسيطرة ليست الحزن أصلاً وإنما القلق من المجهول من شاب مات زميل دراسته، ويذهب الناقد لويس إلى أن القصيدة قد غلب عليها الطابع الموضوعي وليست ذاتية .
ويأتي الناقد إيفانز لينتقد ما يراه تيليارد ولويس، فالأول أغفل تقاليد شعر المراثي الرعوية ولم يفسر المؤلف المقصود بتلك التقاليد ليتسنى لنا معرفة وجهة النقد والإغفال، ولعله قصد ارتباط الرثاء بالحزن الذي نفاه تيليارد، مع أن الحزن هو جزئية من شعر الرثاء، ولا يشترط في التقاليد العربية التصريح به أو بمظاهره كالبكاء مثلا، بل قد يأتي ضمنيًا في تأبين الميت وذكر العبر من الموت وحال الدنيا الفانية .
كما انتقد إيفانز ما حكم به لويس من موضوعية القصيدة مغفلاً المشاعر العميقة التي تضمنتها، ثم رأى إيفانز أن الشاعر قلد فرجيل في شعره الرعوي، ومرة أخرى يسكت المؤلف عن أن يفرق بين رعوية فرجيل وسائر التقاليد الرعوية التي كان قد احتج بها الناقد على صنوه تيليارد، وهو احتجاج يسقط هنا باعتراف إيفانز بوجود تقاليد أخرى رعوية لفرجيل تقيد بها الشاعر .
وخلافا لإيفانز يأتي الناقد تيلاك ليؤكد رؤية تيليارد ولويس في خلو القصيدة من الحزن الشخصي ولا يعده عيبًا كجونسون، بل رأى أنه من الخطأ ضرورة المطالبة باقتران الرثاء بالحزن، وهو ما هو مقرر في النقد العربي كما بينا من قبل، ثم رأى أن موضوع القصيدة هو المصير التراجيدي للشباب والأمل والشهرة، ومن ثم بدا الشاعر في قصيدته فيلسوفًا متأملاً وليس حزينًا باكيًا، الأمر الذي سوغ الاستطرادات الفكرية والاجتماعية التي تخللت القصيدة .
والأمر نفسه يؤكده الناقد فريمان، فالشاعر شاب مقبل على الحياة وامتلك قسطًا من النجاح، فتألم لوفاة غير متوقعة لشاب آخر مثله زامله في نفس تخصصه، وموضوعية القصيدة يؤكدها أيضًا الناقد فلاناجون حتى أنه رأى القصيدة تمثل بيانًا سياسيا راديكاليًا واضحًا .
لخص بكير رأيه في المرثاة تحت عنوان (ليسداس انطلاقة ملتون نحو الشهرة والمجد)، وهو يتضمن حكمًا نقديًا عامًا في الوقت ذاته، تخلله أحكام نقدية جزئية عن القصيدة، ومن ذلك أنه رأى ملتون " قد التزم في هذه المرثاة الرعوية بالتقاليد الكلاسيكية إلى درجة التقليد والتقمص "، وهو بذلك يخالف ما رآه الناقد جونسون دون أن يشير له أو يبين أنه يرد على رأيه، مع أن سائر النقاد لم ينفوا ما رآه جونسون وإنما اتجهوا بطابعها الشعوري والموضوعي إلى جوانب أخرى أبرزوها بحيث يبتعدون عن الحكم بعدم توفق الشاعر لمجرد عدم التزامه بتلك التقاليد .
ثم أشار إلى تفضيل الشاعر أن يكتب قصيدته باللغة الإنجليزية مع أن معظم من تناول موضوعه ومناسبته " اختار الإغريقية أو اللاتينية "، ولم يعلل لصنيع الشاعر وسر اختياره للإنجليزية بخلاف نظرائه، وربما كان ذلك لما قرر أن يضمنه مرثيته من رسائل معاصرة بشأن مجتمعه أو بشأنه هو شخصيًا، بحيث تصل بلغة حية مستعملة اجتماعيًا بعكس تلك اللغات التراثية أو المقتصرة على النصوص الدينية .
وفي الشق الآخر من كتابه تناول بكير ملحمة الفردوس المفقود ووصفها بأنها تمثل الصراع الأبدي بين الخير والشر، واكتفى منها بقراءة الكتابين الأول والثاني من كتبها الاثنى عشرة، وعلل ذلك بأنهما " يشكلان موضوعا واحدا قائما بذاته يتعلق بطرد إبليس من الجنة ثم مداولاته مع أتباعه في كيفية الكيد لله سبحانه وتعالى والإمعان في ارتكاب المعصية "، ويصف المؤلف الصراع بين الخير والشر الذي يمثل فكرة الملحمة بأنه " صراع قدري لا مناص من وقوعه ولا سبيل إلى تجنبه ما دام مشيئة الله قد قضت به وما دامت هناك قيم خير وفضيلة تتناقض وتتعارض مع نوازع الشر والرذيلة في عالمنا الدنيوي " .
ووصف المؤلف عمله في الملحمة بأنه قراءة لنص أدبي شعري بني على أساس ديني مسيحي لكن القراءة سترتكز على المفهوم الإسلامي، وقال: " إذا كان الشاعر قد تناول الموضوع منطلقًا من حيثيات الرواية الإنجيلية للقضية ومن رؤية مسيحية للمسألة الدينية فإننا هنا نناقشها ونبحثها من خلال رؤية قرآنية ومفاهيم إسلامية "، وسنحاول أن نرى إلى أي مدى وفق المؤلف في المقارنة بين الملحمة والرؤى الإسلامية .
إذن كانت الرواية الإنجيلية لحدث إغواء إبليس لآدم من الجنة وخروجهما منها هي مصدر الملحمة المبنية في أسلوبها وبنائها الدرامي على أسس الملاحم الكلاسيكية عند الإغريق والرومان، ولم يشر المؤلف نفيًا أو إثباتًا ما إذا كان ثمة تأثير إسلامي أو عربي وجد في الملحمة حدثًا أو بناء كحادثة الإسراء والمعراج أو رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، كما ذُكر عن ملحمة الكوميديا الإلهية لدانتي، ولاسيما مع تقارب الجو الموضوعي الذي يتناول تلك الغيبيات الدينية، لكن بكير أكد أن كل تلك الأحداث الأزلية والشخوص الغيبية غير مقصودة لذاتها في الملحمة، وأنها أتت لتناقش ما يعتمل في عالم الواقع وليس عالم الغيب، وتبحث ما يدور في الحاضر وليس الماضي، أتت كي " تستعرض أفكارًا وآراء جادة وجريئة للشاعر تتعلق بمفاهيم الدين والمجتمع والسياسة عاصرها المؤلف " وشارك فيها في مجتمعه الإنجليزي آنذاك .
وانتقل المؤلف في الفصل الثاني إلى عرض الخلفية ومسرح الأحداث التي شهدتها الملحمة، فابتدأ بالجحيم بوصفه مأوى الشر والأشرار وعلى رأسهم إبليس وكبار أتباعه، وأورد بكير مقطعا شعريا من الملحمة يصف بشاعة ذلك المكان، وكان قد نوه أنه نقل ترجمة الدكتور عناني لنصوص الملحمة، ووقف المؤلف عند بعض ما جاء فيها من ألفاظ أو جمل إيحائية أو صور بلاغية ذاكرا وظيفتها في جلاء ما اشتمل عليه النص وصف للجحيم، ومن بينها ( ظلمات مبصرة ) و( طوفان من اللهب ) و( العدل السرمدي ) .
وقد وقف المؤلف عند صورة ( ظلمات مبصرة ) متسائلاً كيف تكون هذه الظلمات مبصرة ؟، ثم أتى بما يفسرها من النص وهو قول الشاعر : ( لا تفصح إلا عن مشاهد كرب، وأصقاع أسى، وظلال غم وهم )، وربما نستطيع أن نقول إن في الصورة مجازًا إسناديًا، فأسند اسم الفاعل مبصرة إلى الظلمات والمراد هو من يسكن تلك الظلمات من سكان الجحيم وهم لا يبصرون إلا تلك المشاهد ذكرها الشاعر، فالصورة إذا بيانية وهي مجاز عقلي أو إسنادي قرينته الفاعلية، كقولنا شوارع مزدحمة أي يزدحم الناس فيها، والمراد أن الظلمات التي تغشى الجحيم لم تحل دون الإبصار لمن الجحيم لما حولهم من المشاهد البائسة .
لكن بالعودة للنص نجد صورًا وتعابير تذكرنا بتصوير حال الكفار في القرآن الكريم تمنينا لو لفت المؤلف النظر إليها، فقول الشاعر ( نار بلا نور ) صورة عجيبة، فأي نار هذه تخلو من الضوء وهي التي اتخذها الإنسان منذ بدء الخليفة لغرض الإضاءة، وما الفائدة إذن منها وما الحاجة إليها، وهنا نتذكر قوله تعالى في تصوير ضلال الكفار والمنافقين : " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون "، سورة البقرة آية 17، فهذه الآية الكريمة تحيل الذهن إلى السطر :
نار بلا نور، بل ظلمات مبصرة
وكأن الشاعر كانت هذه الآية في ذهنه حينما نظم ذلك السطر بكل ألفاظه وبالترتيب نفسه، نار، نور، ظلمات، إبصار .
ونفهم مغزى انتفاء النور عن النار بقول ابن القيم في تفسيره للآية أن في النار عنصرين متحدين، عنصر إحراق وعنصر إشراق، فهم يتعذبون بالعنصر الأول دون أن يستفيدوا من العنصر الآخر، لكن الشاعر إذا كان قد وافق الآية في انتفاء النور عن النار، فقد خالفها في إثبات الإبصار للظلمات أو بالأحرى لمن فيها لاختلاف المكانين، فالآية تتحدث عن حال الكافر في الحياة الدنيا وهذا يصف حال الأشرار في حياة الجحيم، والجحيم في المفهوم الإسلامي أيضًا مظلمة مسودة لكن كل الدلائل القرآنية تدل على أن المعذبين فيها يبصرون ما حولهم، ومنه قوله تعالى ذاكرًا تخاصم أهل النار : " وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار، أتخذناهم سخريًا أم زاغت عنهم الأبصار " . سورة ص 62، 63 .
ومثله الصورة التي تقول :
لا يمكن أن يحل بها السلام والدعة، بل لقد
امتنع فيها الأمل
هي صورة تناولها القرآن في بعض آياته الكريمات، ومنه قوله تعالى على لسان أهل الجحيم : " وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخففْ عنا يومًا من العذاب، قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات، قالوا بلى، قالوا فادعوا، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " . سورة غافر آية 49، 50 .
ثم يعرض المؤلف نصين آخرين أحدهما " في رسم صورة لبحيرة اللهب التي سقط فيها إبليس ساعة أن هوى إلى الجحيم "، والأخرى " يرسم خطوطها وملامحها إبليس نفسه "، ومما استوقفني في النص الأول السطر الأخير :
في أمواج كالجبال تنفرج عن واد شائك مسنون
فقد اشتمل على صورة قرآنية هي تشبيه الموج بالجبال التي نجدها في قوله تعالى : " وهي تجري بهم في موج كالجبال "، سورة هود آية 42، ولفظة قرآنية هي ( مسنون )، وقد وردت في القرآن الكريم في سياق مماثل لجو الملحمة، وهو قصة خلق آدم عليه السلام وحوار ربنا تعالى مع إبليس وعصيانه له، وذلك في قوله تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون "، سورة الحجر آية 26، ثم قوله تعالى على لسان إبليس : " قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون "، سورة الحجر آية 33، ولكن أتت دلالتها غامضة في وصف الوادي بها، ومجيئها بعد لفظة شائك تقترب دلالتها من معنى حاد، من سن الرجل شفرته فهي مسنونة، وهي غير دلالتها القرآنية .
وفي النص الآخر يقول الشاعر في وصف مشهد من الجحيم بلسان إبليس :
أترى ذلك السهل الكئيب الموحش الرهيب
مقر الخراب والهباء، وما به من ضياء
إلا ما تلقيه ألسنة اللهب الشاحبة من بصيص
فاستعمال حرف النفي ( ما ) لنفي الضياء أتى قلقًا؛ لأن القارئ يظنه في القراءة الأولى ولأول وهلة اسمًا موصولاً، فيُشكل المعنى ويعطي دلالة معكوسة مثبتة لوجود الضياء، ولا تزول إلا بقراءة السطر التالي الذي يفاجأ القارئ بالاستثناء فيضطر للعودة لمتابعة الدلالة الجديدة، وهذا الارتباك لا شك سيعطل عند استرساله في المتعة بالنص، ولو كانت أتت في سطر منفرد لخف الإشكال، ولو وردت في سطر واحد مع ما يليها من استثناء لزال الإشكال تمامًا :
وما به من ضياء إلا ما تلقيه ألسنة اللهب الشاحبة
أما على ذلك النحو والترتيب فالأولى برأيي أن يأتي في موضع حرف النفي المشكل ( ما ) فعل النفي البين ( ليس ) :
مقر الخراب والهباء، وليس به من ضياء
وبهذا تكون الجملة مستقلة بدلالتها، بينة في معناها، ثم يلحقها الاستثناء .
وينتقل المؤلف إلى موضع آخر من مسرح الأحداث في الملحمة هو ( البانديمونيوم )، وهي، كما يقول المؤلف " كلمة ابتدعها ملتون من اللغة اليونانية لتعني ( ملتقى الشياطين جميعًا ) "، وقد يطلق عليه ( الكابيتول )، وهو صرح منيف اتخذه إبليس وكرًا يجتمع فيه مع أتباعه " وبين أروقته تحبك الدسائس وتحاك شباك الرذيلة "، وعرض المؤلف ثلاثة نصوص في وصفه، واستوقفني في النص الأول السطر الخامس :
في الأركان عمد (دورية) مكسوة
ووضع المؤلف لفظة ( دورية ) بين قوسين دون أن تتضح دلالة التقويس أو يوضحها هو للقارئ، ولعله رآها قلقة أو أقرب لكلام العامة، وربما تحل محلها لفظة مدورة أو أسطوانية .
ويتحول المؤلف إلى الفصل الثالث ليتناول فيه قوى الشر والرذيلة الذين هم يمثلون أبطال الملحمة، وهم إبليس، والشياطين ملكوم وبليعال ومامون وبعلزبول، والخطيئة والموت، ولكل واحد دوره أو رمزه الذي يشير إليه، وبدأ المؤلف بإبليس الذي وصمه بأنه رأس الشر وحامل لواء المعصية، فعرض نصًا يصور هويه من الجنة وسقوطه في الجحيم، ومنه قول الشاعر :
وهكذا قذف الإله الجبار به من حالق
فانقلب ساقطًا يتقد لهيبًا من السماء العليا
ثم نصًا يصور خروج آدم وحواء من الجنة، ومنه قول الشاعر :
كانت الدنيا أمامهما تدعوهما لاختيار
مقر راحتهما، وكانت العناية الإلهية هاديهما ومرشدهما
وهما، كما رأى المؤلف، يشكلان صورتين متناقضتين " صورة الطرد لإبليس إلى مهاوي الجحيم وفجاجه الملتهبة ... وصورة خروج آدم وحواء إلى الأرض مكرمين معززين حيث يختاران مقر راحتهما "، وقد جعل المؤلف لسقوط إبليس دلالتين سقوط مادي وسقوط أخلاقي ويستشهد بآية قرآنية تقرران ذلك السقوط المعنوي، كقوله تعالى : " قال اخرج منها مذءومًا مدحورا "، سورة الأعراف آية 18، وقوله : " قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين " سورة الأعراف آية 13، وكان موفقًا في ذلك .
لكن المؤلف أقر الشاعر في وصف الأرض التي خرجا إليها من الجنة بأنها مقر راحتهما، واستشهد له بالآية القرآنية التي تصف آدم بأنه خليفة في الأرض، وهي قوله تعالى : " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة " سورة البقرة آية 30، وهي لا تدل على أن الأرض مقر راحة بل مقر عمل وجهد، فضلاً عن طبيعة الأرض نفسها وما للإنسان فيها من احتياجات كان في سلامة منها وغنى عنها حين كان في الجنة، ويبدو ذلك كله جليًا في قوله تعالى : " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " سورة طه الآيات 117 – 119، إذن ما جاء في الملحمة يخالف التصور الإسلامي في هذه الحيثية ولا يوافقه .
ويمضي المؤلف في عرض كيف يصور إبليس وهو الجحيم فإذا هو قد فقد بهاءه وحسن منظره ويخضع لقدرة الله وعظمته راغمًا، ومع ذلك يصوره الشاعر وهو يتعاظم بشخصه محاولا أنه يزيح عن مظهره أي انعكاس لما في نفسيته من انكسار، فيُظهر لمن حوله " صورة الشموخ والبهاء لكنه شموخ منكسر وبهاء ذابل " يرسمها الشاعر بقوله :
وكان في صورته وحركته شامخًا متكبرا
...
مثل الشمس عند شروقها
وهي تشخص من خلال ضباب الآفاق
عاطلة من أشعتها، أو عندما تطل من وراء القمر
ساعة الخسوف المدلهم جالب الكوارث
ويقف المؤلف متأملاً عند هذا التصوير من الشاعر لإبليس بالشمس فيقول : " هنا نجد صورة لشخصية درامية مركبة ومعقدة، شخصية تحمل من المتناقضات والمتضادات الشيء الكثير، إنها تعبير حقيقي عن شخصية إبليس الرجيم فيها من القوة والشموخ ما يقابلها من الضعف والانكسار، وفيها من البهاء والسناء ما يقابله من الذبول والشحوب، وفيها من الضياء ما يقابله من الظلام، وفيها من علامات القسوة والعزيمة ما يقابله من آيات الندم " .
ويحاول إبليس أن يتماسك أمام أتباعه من قوى الشر والرذيلة فيمعن في عصيانه وفسوقه ويعدهم أنه " سيجعل من الخير سببًا للشرور والآثام والمعاصي، إنها قمة المعصية لله سبحانه وتعالى "، وينقل المؤلف من كلام الشاعر على لسان إبليس قوله :
لن نفعل الخير يومًا
بل سنرى في الشر دومًا متعة مثلى
فهو نقيض المشيئة العليا
إنها عقلية إبليس، كما يقول المؤلف، " ونفسيته الشيطانية الفاسقة تظل تزين له الأشياء ... يرى في نفسه القدرة على التكيف مع واقعه الجديد " :
الذهن هو الذي يخلق المكان وهو في باطنه
قادر على أن يحيل الجحيم جنة أو الجنة جحيما
لا بل إن إبليس يفضل عيش الجحيم لأنه سيكون فيه سيدا على قوى الشر ويقول :
إن السيادة مطمع رفيع ولو كانت في الجحيم
سيد في جهنم أكرم من عبد في الجنة
ويرى المؤلف في ذلك " حذلقة كلامية شيطانية يحاول بها إبليس إقناع نفسه، وإقناع أتباعه بها " .
وقد رأى بكير في تلك الحذلقة التي صاغها الشاعر على لسان إبليس نوعًا من التعبير القائم على السخرية والتهكم، وقال: " إن الشاعر هنا وبأسلوبه التهكمي الساخر وباختياره للألفاظ والمفردات الدالة على الفضيلة يحقر من وضع إبليس ومن مكانته ويحط من قدره "، وحقيقة الأمر أن الشاعر لم يقصد سخرية ولا تهكمًا، فبمثل تلك العبارات التي ظاهرها التناقض لا يسخر الشاعر من إبليس، ولا يسخر إبليس من نفسه أو من أتباعه، بل هو يقولها في كامل عنفوانه وجبروته وتؤدي وظيفة إبراز ذلك الكبر والمكابرة التي أراد الشاعر أن يصف بها إبليس ويرسم شخصيته الجبارة .
وهو ما رآه من نقدوا شيطان ملتون حتى إن بعضهم جعلوه بطلا ملحميًا، بل وصل القول بآخرين أن رأوا الشاعر نفسه متحمسًا لإبليس لصياغته ذلك المنطق المعكوس على لسانه، فضلاً عن ما أضفاه عليه من صفات القوة والجبروت الحسية في صورته، وفي مكان سكناه في الجحيم، وفي كثرة وقوة أتباعه، والمؤلف نفسه نراه يعود ويقول : " بقدر ما أعطى ملتون لشخصية إبليس من قدرات قيادية وسمات بطولية فقد أعطاه من الصفات الجسمية ما يجعله ماردًا عملاقًا "، ثم قال : " لذلك بدت صورة إبليس كأنها صورة لبطل عظيم فصوره خطيبًا مصقعًا بليغًا، وصوره شخصية لا تتراجع ولا تتقهقر، غير أن هذه الشجاعة وهذا الإقدام يعتمد على قاعدة الكذب والرياء والمخادعة "، وهذا هو عين ما أراده الشاعر في تصويره لكل ذلك في إبليس وليس السخرية أو التهكم، وهو صنيع كل أديب وهو يقدم شخصية الشر في أعماله .
ثم انتقل المؤلف إلى أتباع إبليس ممن وصفهم بـ( دهاقنة الشر وأساطينه ) مبتدئًا بالشخصية التي تدعى ( ملكوم )، نعته بأنه " رمز القوة والبطش والسلطان "، وهو على صورة ملك متوج واسمه دال عليه، ولم يبين المؤلف لم أضاف الميم في آخره مع عدم وجوده في اللفظة الإنجليزية، واكتفى بالقول : " إن لفظة ملكوم تعني في العبرية الملك "، ومرة أخرى لم يبين لم خص اللغة العبرية بالذكر مع أن الكلمة موجودة في اللغة العربية بالمعنى نفسه كما هو ظاهر، ويبدو سبب ذلك هو إضافة الميم الذي يأتي علامة للتنوين في العبرية وبعض اللغات السامية ويسمى التمويم، وكان المترجم، برأيي، في غنى عن إضافته .
وشخصية الشر الثانية هي ( بليعال )، ونعته المؤلف بأنه " رمز المظهرية والمخاتلة "، ويشير إلى أن الشاعر اقتبسها أيضًا عن اللغة العبرية، وربما هذا ما يفسر وجود حرف العين غير المنطوقة في الإنجليزية التي هي اللغة الأصلية للملحمة، وهذه الشخصية يصفها المؤلف بأنها " شخصية واقعية ترى في التسليم بالأمر الواقع عين العقل والمنطق، ومما قاله في إثبات منطقه هذا :
أو لربما نتبدل بعد ردح طويل فنتكيف مع هذا المكان
ذهنًا وبدنًا، فتصبح الرمضاء مألوفة لا ألم فيها
ويصبح هذا السعير قريرا والظلام بصيرا
وقوله يصبح " الظلام بصيرًا " يخالف فيه الشاعر ما قرره سلفًا من أن الظلمات مبصرة فعلاً في ذلك الجحيم، وربما أراد أن تتبدد الظلمة على الأقل في أذهانهم ونفسياتهم، أما قوله (نتبدل بدنًا) فيذكر بقوله تعالى : " بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب " سورة النساء آية 56، أي لغير ما أراده وقصده هذا الشيطان .
ثم ذكر الشيطان الثالث واسمه ( مامون )، وهو المسئول عن " الشر الملتحف برداء المادة وحب الثروة "، كما ألمح المؤلف، وقال : " وردت كلمة ( مامون ) في بعض نسخ الإنجيل بمعنى الثروة والغنى "، وهي تذكرنا بلفظها ومعناها بكلمة المؤن أو الماعون في لغتنا العربية، وأورد بكير عددًا من النصوص التي أنشدها الشاعر على لسان هذا الشيطان بما يدل على" النزعة المادية المتأصلة في عالم الشر والرذيلة المتمثلة في شخصية مامون "، ويعرضها على ما ورد في آي القرآن الكريم من أساليب الشيطان وحيله في إغراء بني آدم، ومن ذلك قوله :
وأفكاره تتجه دائمًا إلى أسفل
إذ تبهره ثروات أرض الجنة
والنضار الذي تطؤه الأقدام
أكثر من أي قداسة
ويأتي الشيطان الرابع، ويدعى ( بعلزبول )، فيصفه المؤلف بأنه " رمز الدهاء والمكر والخديعة "، ويقول بأن اسمه يعني ( أمير الشياطين )، وهذا يدل على أن اسمه مكون من مقطعين، فنراه يبدأ بالمقطع ( بعل ) وهو لفظ يدل على الإمارة والقيام بالشأن، ولذا يطلق على الزوج، ويدل على الألوهية، وقد أتى بالمعنيين في القرآن الكريم، فمعنى الزوج قوله تعالى على لسان السيدة سارة زوجة إبراهيم عليه السلام : " يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخًا " سورة هود آية 72، وبمعنى الإله في قوله تعالى على لسان نبيه إلياس عليه السلام : " أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين " سورة الصافات آية 125 .
وهذا الشيطان الذي يعد " قطبًا أساسيًا من أقطاب العالم السفلي " كما تخيل الشاعر هو صاحب فكرة " غواية الإنسان وإبعاده عن الصراط المستقيم وجره إلى منزلقات الشر وعالم الرذيلة "، وذلك حيث يقول :
... فلنغوهم
بالانضمام إلى حزبنا بحيث يصبح إلههم
عدوًا لهم
وهو ما يذكر بقوله تعالى " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " سورة فاطر آية 6 .
ويختم المؤلف بشخصية ( الخطيئة ) التي هي " مفتاح الرذيلة وبوابة الشر "، ويرسمها الشاعر في صورة امرأة جميلة في نصفها الأعلى وكائن مشوه في نصفه الأسفل، ويصورها ابنة لإبليس ثم يتخذها زوجة له ليضعنا كما يرى المؤلف أمام " حقيقة أن الشيطان والخطيئة من جنس واحد، ومن جبلة واحدة، وينتمون إلى عالم واحد هو عالم المعصية والفسوق والشر والرذيلة "، وهي تمتلك مفاتيح الجحيم فتساعد إبليس على الخروج منه كي يأتي آدم وحواء ويغويهما، وعند خروجه يعدها بعودته للجحيم كي يأخذها إلى عالم الإنسان لتكون شريكته في نشر الضلال والفسوق .
ويهمل المؤلف ذكر آخر قوى الشر في الملحمة وهو ( الموت ) الذي يصوره الشاعر ابنًا للخطيئة، ولعل في ذلك رمزًا لموت القلب أو موت الضمير لدى المرتكب للخطيئة الممارس للشر والواقع في الرذيلة، أما بكير فيعلل عدم وقوفه عنده كأحد قوى الشر بقوله : " الموت في المعتقد الديني الإسلامي والمسيحي لا يمكن تصنيفه ضمن قوى الشر والرذيلة، بقدر ما خلقه الله ملاكًا مكرمًا وكلفه بأخذ أرواح المخلوقات في الحياة الدنيا "، وقد خلط بين الموت والملك المكلف بقبض الأرواح وهو ليس نفسه الموت بحيث نقول " خلقه الله ملاكًا "، وتكليف ملاك بإيقاع الموت لا يجعل الموت شيئًا حسنًا، كما أن هناك ملائكة مكلفون بالعذاب، والعذاب لا ريب شر ومكروه .
صحيح أن الموت لا يوصف بأي حال أنه رذيلة لأنه لا خيار للإنسان في اجتنابه، لكن هذا لا ينفي كونه شرًا، وقد وصفه القرآن بأنه ( مصيبة ) في قوله تعالى : " فأصابتكم مصيبة الموت " سورة المائدة آية 106، قال المفسرون للآية: المصيبة هي كل ما يحل بالمرء من شر وضر، كما حكى القرآن أن التخويف من الموت ومحاولة اتقائه كان من وسائل إبليس في إغواء آدم وحواء ثم وقوعهما في الخطيئة، حيث قال لهما الشيطان : " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " سورة الأعراف آية 20، وفي آية أخرى : " قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " سورة طه آية 120 .
وكذلك أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم نعوتًا تدل على أنه شر، فوصفه بأنه داء في قوله : " ما أنزل الله داء إلا وأنزل معه دواء إلا السام "، وهو الموت، ووصفه بهازم اللذات أو هادم اللذات، أما ما يطلبه المؤمنون ويدعون الله به فهو حسن الخاتمة، والثبات عند حلول سكرات الموت، أما تمني الموت ذاته فمعلوم أنه منهي عنه شرعًا، أما ما رآه المؤلف من إحلال كلمة الهلاك محل كلمة الموت " باعتبارها نتيجة الخطيئة أو الإثم "، فالأقرب أنه لا يحل محلها لأن الموت ألصق بالإنسان وبدلالة مفارقة الحياة، بينما تتسع دلالة الهلاك لتشمل كل صنوف الدمار والعذاب والفساد، ومن ثم توصف به الكائنات الحية وغير الحية كقوله تعالى : " ليهلك الحرث والنسل " سورة البقرة آية 205، أي ليفسده ويدمره، وقوله تعالى : " فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها " سورة الحج آية 45، أي عذبناها ودمرناها .
واختتم المؤلف كتابه بخلاصة لكتابي الملحمة الأول والثاني، استخلص فيها بعض العبر ووقف إزاء بعض ما ورد فيهما من صور، ومن ذلك صورة الجحيم بأبعادها المختلفة، فرأى المؤلف أن ملتون أعطاه في ملحمته بعدين، بعد مادي محسوس من خلال ما رسمه من مشاهد في الجحيم، وبعد معنوي تمثل في ما يشعر به إبليس فيه من إذلال نفسي وحسرة، مما كون جحيمًا داخليًا في ذهن إبليس ونفسه، وصفه الشاعر بـ(جحيمه الباطن)، فلا يستطيع الفكاك منه حتى وهو في خارج الجحيم نفسه، ورأى بكير أن هذا الشعور أعطى بعدًا فلسفيًا للجحيم .
ووقف بكير لدى ما يراه بعض من نقد الملحمة ودور إبليس فيها، من أن إبليس يعد " بطلاً ملحميًا تراجيديًا وفق المفاهيم الكلاسيكية والتقليدية لشخصية البطل "، فلم يقبل ذلك ورده من وجوه مختلفة، منها أن شخصية البطل الملحمي " تتحكم فيها وتسيطر عليها نزعة الخير والفضيلة، وتسعى نحو غايات نبيلة "، وإبليس على عكس ذلك، ومنها أن ما يبدو على إبليس من قدرات قيادية وسمات بطولية وقوى جسدية هي في حقيقتها " صفات مظهرية جوفاء مذمومة " و" تلكم القوى خادعة ومخادعة، قوة هشة "، وكأن بكير أراد أن يشير إلى قوله تعالى : " إن كيد الشيطان كان ضعيفًا " سورة النساء آية 76 .
ومن بين ما استخلصه المؤلف هو عبرة تصوير الخطيئة بامرأة جميلة وهو أن للخطيئة متعة لدى مرتكبها؛ إذ " إن الإنسان ليقع أحيانًا في الإثم والمعصية تشده أهواؤه وغرائزه ومتع الحياة الفانية ... وهو يدرك أن في ذلك خروجًا عن تعاليم الدين وعن الأخلاق "، وهنا أورد بكير قوله تعالى: " وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون "، سورة النمل آية 24، وهو ما يتوافق أيضًا مع قول الرسول عليه الصلاة والسلام : " حفت النار بالشهوات " .
لقد كانت قراءة الناقد عبد الله بكير في مرثاة ليسيداس وملحمة الفردوس المفقود للشاعر الإنجليزي جون ملتون جادة ومفيدة وممتعة، جمعت بين التحليق الأدبي، والتحليل النقدي، والذكرى الدينية، والعظة الاجتماعية، والعبرة الأخلاقية، فأتت شاملة دالة من ناحية على الجمال البلاغي والعمق الدلالي للمرثاة والملحمة، ودالة من ناحية أخرى على السعة العلمية والأفق الفكري لدى صاحب القراءة .